كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لحديث ابن عمر المذكور. زاد الثوري في روايته، عن أيوب، عن نافع في هذا الحديث: ولا القباء، أخرجه عبد الرزاق، ورواه الطبراني من وجه آخر عن الثوري، وأخرجه الدارقطني، والبيهقي من طريق حفص بن غياث، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع أيضًا. انتهى محل الغرض منه، وهذا الذي ذكرنا من تحريم اللباس المذكور إنما هو في حق الرجال، وأما النساء فلهن أن يلبسن ما شيءن من أنواع الثياب، إلا أنهن لا يجوز لهن أن ينتقبن، ولا أن يلبسن القفازين، لأن إحرام المرأة في وجهها وكفيها.
وقد قال البخاري رحمه الله في صحيحه: حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا الليث، حدثنا نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجل فقال: يا رسول الله، ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب الحديث وفيه «ولا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين» تابعه موسى بن عقبة، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، وجويرية، وابن إسحاق في النقاب والقفازين، وقال عبد الله: ولا ورس، وكان يقول: لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين، وقال مالك عن نافع عن ابن عمر: لا تنتقب المحرمة، وتابعه ليث بن أبي سليم. انتهى من صحيح البخاري.
وقال أبو داود رحمه الله في سننه بعد أن ساق حديث ابن عمر المتقدم: حدثنا قتيبة بن سعيد، ثنا الليث، عن نافع عن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بمعناه. وزاد: «ولا تنتقب المرأة الحرام، ولا تلبس القفازين» وفي لفظ عن ابن عمر، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين» وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث: وأما حديث ابن عمر أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين، والنقاب، وما مسه الورس، والزعفران من الثياب وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من أنواع الثياب من معصفر أو خز أو حرير، أو حليًّا أو سراويل أو قيمصًا أو خفًا، فرواه أبو داود بإسناد حسن، وهو من رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي إلا أنه قال: حدثني نافع عن ابن عمر وأكثر ما أنكر على ابن إسحاق التدليس، وإذا قال المدلس: حدثني، احتج به على المذهب الصحيح المشهور. انتهى منه.
وقال ابن حجر في التلخيص: حديث: أنه صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن النقاب، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب معصفرًا، أو خزًا، أو حليًّا، أو سراويل، أو قيمصًا، أو خفًا. رواه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر، واللفظ لأبي داود زاد فيه بعد قوله: عن النقاب: وما مس الزعفران والورس من الثياب: وليلبسن بعد ذلك. ورواه أحمد إلى قوله من الثياب، ومن ذلك استعمال المحرم الطيب في بدنه. أو ثيابه، والطيب هو ما يتطيب به، ويتخذ منه الطيب، كالمسك، والكافور، والعنبر، والصندل، والورس، والزعفران، والورد، والياسمين ونحو ذلك، والأصل في منع استعمال الطيب للمحرم هو ما قدمنا في حديث ابن عمر المتفق عليه من نهيه صلى الله عليه وسلم عن لبس ما مسه الزعفران، والورس من الثياب في الإحرام، وما قدمنا من حديث مسمل في الذي وقع عن راحلته فأوقصته فمات. ففي لفظ في صحيح مسلم: فأمر النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل بماء وسدر وأن يكفن في ثوبين، ولا يمس طيبًا الحديث. وفي لفظ في صحيح مسلم: فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «اغسلوه ولا تقربوه طيبًا ولا تغطوا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة يلبي» فقوله «ولا يمس طيبًا» في الرواية الأولى نكرة في سياق النفي وقوله «ولا تُقَرِّبُوه طيبًا» في الرواية الثانية نكرة في سياق النهي، وكلتاهما من صيغ العموم، كما هو مقرر في الأصول فهو يدل على منع جميع أنواع الطيب للمحرم، وترتيبه صلى الله عليه وسلم على ذلك بالفاء.
قوله: «فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًّا» دليل على أن علة منع ذلك الطيب كونه محرمًا ملبيًّا، الدلالة على العلة المذكورة: هي من دلالة مسلك الإيماء والتنبيه، كما هو معروف في الأصول. ومن ذلك عقد النكاح، فإنه لا يجوز للمحرم أن يتزوج، ولا أن يزوج غيره بولاية أو وكالة، وسيأتي الخلاف في تزويج المحرم غيره بالولاية العامة إن شاء الله تعالى، وكون إحرام أحد الزوجين أو الولي مانعًا من عقد النكاح، هو الذي عليه أكثر أهل العلم.
وعزاه النووي في شرح المهذب لجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وقال وهو مذهب عمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والزهري، ومالك، وأحمد، والشافعي، وإسحاق، وداود، وغيرهم. وقال في شرح مسلم: قال مالك والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء من الصحابة، فمن بعدهم: لا يصح نكاح المحرم. اهـ. وقال ابن قدامة في المغني. وروي ذلك عن عمر وابنه، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والزهري، والأوزاعي، ومالك، والشافعي. اهـ.
وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم: إلى أن إحرام أحد الزوجين، أو الولي، ليس مانعًا من عقد النكاح، وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة، وهو مروي عن الحكم، والثوري، وعطاء، وعكرمة، وعزاه صاحب المغني، لابن عباس، والظاهر أن عزو هذا القول الأخير لابن عباس أصح من عزو النووي له القول الأول كما ذكرناه عنه آنفًا كما سترى: ما يدل على ذلك إن شاء الله تعالى.
وإذا علمت أقوال أهل العلم في الإحرام بحج أو عمرة، هل هو مانع من عقد النكاح، أو لا، فهذه أدلتهم. أما الجمهور القائلون: بأن الإحرام مانع من النكاح، فاستدلوا بما رواه مسلم رحمه الله في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن نُبَيْهِ بن وهب. أن عمر بن عبيد الله أراد أن يُزَوِّجَ طلحة بن عمر، بنت شيبة بن جبير. فأرسل إلى أبان بن عثمان يَحْضُر ذلك وهو أمير الحج. فقال أبان: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَنْكِحُ المحرم، ولا يُنْكَحُ ولا يَخْطِبُ».
وحدثنا محمد بن أبي بكر المُقَّدِمي. حدثنا حماد بن زيد عن أيوب، عن نافع. حدثني نبيه بن وهب. قال: بعثني عمر بن عبيدالله بن معمر. وكان يخطب بنت شيبة بن عثمان على ابنه. فأرسلني إلى أبان بن عثمان وهو على الموسم. فقال: ألا أراه إعرابيًّا «إن المحرم لا يَنْكِحْ ولا يُنْكَحُ»، أخبرنا بذلك عثمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدثني أبو غسان المِسْمَعِي. حدثنا عبدالأعلى. ح وحدثني أبو الخطاب زياد بن يحيى. حدثنا محمد بن سواء. قالا جميعًا: حدثنا سعيد عن مطر ويعلي بن حكيم، عن نافع، عن نبيه بن وهب، عن أبان بن عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ، ولا يُنْكَحُ ولا يَخْطِبُ».
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، وزهير بن حرب. جميعًا عن ابن عيينة. قال زهير: حدثنا سفينا بن عيينة عن أيوب بن موسى، عن نبيه بن وهب، عن أبان بن عثمان، عن عثمان يَبْلُغُ به النَّبي صلى الله عليه وسلم قال «المحرم لا يَنْكِحُ ولا يَخْطُبُ».
حدثنا عبدالملك بن شعيب بن الليث. حدثني أبي عن جدي. حدثني خالد بن يزيد. حدثني سعيد بن أبي هلال عن نبيه بن وهب. أن عمر بن عبيد الله بن معمر أراد أن يُنْكِحَ ابنه طلحة بنت شيبة بن جبير في الحج. وأبان بن عثمان يومئذ أميرِ الحاجِّ. فأرسل إلى أبان: إني أردت أن أَنْكِحَ طلحة بن عمر. فأحِبُّ أن تَحْضُرَ ذلك. فقال له أبان: ألا أراك عراقيًّا جافيًّا! إني سمعت عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَنْكِحُ المحرم».
وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وإسحاق الحنظلي. جميعًا عن ابن عيينة. قال ابن نمير: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء. أن ابن عباس أخبره. أن النَّبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم. زاد ابن نمير: فحدثت به الزهري فقال: أخبرني يزيد بن الأصم: أنه نَكَحَها وهو حلال. وحدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا داود بن عبد الرَّحمن عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، أبي الشعثاء، عن ابن عباس. أنه قال: «تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم».
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. حدثنا يحيى بن آدم. حدثنا جرير بن حازم. حدثنا أبو فزارة عن يزيد بن الأصم حدثتني ميمونة بنت الحارث «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال». قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس. انتهى من صحيح مسلم. وحديث عثمان المذكور في صحيح مسلم رواه أيضًا مالك وأحمد وأصحاب السنن. وقال أبو عيسى الترمذي بعد أن ساقه: حديث عثمان حديث حسن صحيح، والعلم على هذا عند بعض أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم، منهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن عمرن وهو قول بعض فقهاء التابعين، وبه يقول مالك، والشافعي وأحمد، وإسحاق لا يرون أن يتزوج المحرم. وقالوا: إن نكح فنكاحه باطل. وحديث يزيد بن الأصم، عن ميمونة المذكور في صحيح مسلم «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نكحها وهو حلال» رواه أيضًا الترمذي، وأبو داود وابن ماجه والإمام أحمد، وقال الترمذي: حدثنا قتيبة، ثنا حَمَاد بن زيد عن مطر الورَّاق، عن ربيعة بن أبي عبد الرَّحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع قال «تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة، وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت أنا الرسول فيما بينهما».
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، لا نعلم أحدًا أسنده غير حماد بن زيد عن مطر الوراق، عن ربيعة. وروى مالك بن أنس عن ربيعة، عن سليمان بن يسار «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال» رواه مالك مرسلًا، ورواه أيضًا سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلًا. انتهى: محل الغرض منه. وحديث أبي رافع هذا رواه أيضًا الإمام أحمد، وروى مالك رحمه الله في موطئه، عن نافع. أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول: لا ينكح المحرم، ولا يخطب على نفسه، ولا على غيره. وفي الموطأ أيضًا، عن مالك أنه بلغه: أن سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله، وسليمان بن يسار سُئِلُوا عن نكاح المحرم؟ فقالوا: لا يَنْكِحُ المحرم، ولا يُنْكِحْ. وفي الموطأ أيضًا عن مالك، عن داود بن الحصين. أن أبا غطفان بن طَرِيف المُرِّيَّ، أخبره أن أباه طريفًا، تزوج امرأة وهو محرم. فرد عمر بن الخطاب رضي الله عنه نكاحه. وحديث أبي غطفان بن طريف، هذا رواه أيضًا الدارقطني، وروى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سئل عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل، وهو خارج من مكة، فأراد أن يعتمر أو يحج؟ فقال: لا تتزوجها، وأنت محرم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه انتهى منه بواسطة نقل المجد في المنتفى.
فهذا هو حاصل أدلة من قال: بأن الإحرام مانع من عقد النكاح، وأما الذين قالوا: بأن الإحرام لا يمنع عقد النكاح، فقد استدلوا بما رواه الشيخان في صحيحيهما، وأصحاب السنن، والإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم» وللبخاري: «تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم، وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف»اهـ.
قالوا: فهذا الحديث المتفق عليه، عن ابن عباس رضي الله عنهما فيه التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، والله تعالى يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وهو المشرع لأمته بأقواله، وأفعاله، وتقريره صلوات الله وسلامه عليه، فلو كان تزويج المحرم حرامًا لما فعله صلى الله عليه وسلم واحتج الجمهور القائلون: بمنع نكاح المحرم بالأحاديث المتقدمة، قالوا: ثبت في صحيح مسلم من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا ينكح المحرم ولا يخطب» وصيغة النفي في قوله «لا ينكح ولا ينكح ولا يخطب» يراد بها النهي كقوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} [البقرة: 197] أي لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا في الحج، وإيراد الإنشاء بصيغة الخبر أبلغ من إيراده بصيغة الإنشاء، كما هو مقرر في المعاني.
والحديث دليل صحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم على منع نكاح المحرم وهو معتضد بما ذكرنا معه من الأحاديث، والآثار الدالة على منع نكاح المحرم. وأجاب الجمهور القائلون: بمنع إحرام أحد الزوجين: أو الولي عقد النكاح عن حديث ابن عباس المذكور، بأجوبة.
واعلم أولًا: أن المقرر في الأصول: أنه إذا اختلف نصان وجب الجمع بينها إن أمكن، وإن لم يمكن وجب الترجيح.
وإذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أن من أجوبتهم عن حديث ابن عباس المذكور، أنه يمكن الجمع بينه وبين حديث ميمونة، وأبي رافع «أنه تزوجها وهو حلال» ووجه الجمع في ذلك، هو أن يفسر قول ابن عباس: أنه تزوجها وهو محرم بأن المراد بكونه محرمًا كونه في الشهر الحرام، وقد تزوجها صلى الله عليه وسلم في الشهر الحرام، وهو ذو القعدة عام سبع في عمرة القضاء، كما ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه في كتاب: المغازي في باب عمرة القضاء.
قال بعد أن ساق حديث ابن عباس المذكور، وزاد بن إسحاق: حدثني ابن أبي نجيح، وأبان بن صالح، عن عطاء، ومجاهد، عن ابن عباس قال: «تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة في عمرة القضاء» اهـ منه. ومعلوم أن عمرة القضاء كانت في الشهر الحرام، وهو ذو القعدة من سنة سبع، ولا خلاف بين أهل اللسان العربي في إطلاق الإحرام على الدخول في حرمة لا تهتك كالدخول في الشهر الحرام، أو في الحرم أو غير ذلك.
وقال ابن منظور في اللسان: وأحرم الرجل: إذا دخل في حرمة لا تهتك، ومن إطلاق الإحرام على الدخول في الشهر الحرام، وقد أنشده في اللسان شاهدًا لذلك قول زهير:
جعلن القنان عن يمين وحزنه ** وكم بالقنان من محل ومحرم

وقول الآخر:
وإذ فتك النعمان بالناس مُحرما ** فملئ من عوف بن كعب سلاسله

وقول الراعي:
قتلوا ابن عفَّان الخليفةَ مُحرما ** ودعا فلم أر مثله مقتولا

فتفرقت من بعد ذاك عصاهُم ** شقفًا وأصبح سيفهم مسلولا

ويروى: فلم أرد مثله مخذولًا، فقوله: قتلوا ابن عفان الخليفة محرمًا: أي في الشهر الحرام وهو ذو الحجة، وقيل المعنى: أنهم قتلوه في حرم المدينة، لأن المحرم يطلق لغة على كل داخل في حرمة لا تهتك سواء كانت زمانية، أو مكانية أو غير ذلك.
وقال بعض أهل اللغة منهم الأصمعي: إن معنى قول الراعي: محرمًا في بيته المذكور كونه في حرمة الإسلام، وذمته التي يجب حفظها، ويحرم انتهاكها وأنه لم يحل من نفسه شيئًا يستوجب به القتل، ومن إطلاق المحرم على هذا المعنى الأخير قول عدي بن زيد:
قتلوا كسرى بليل محرما ** غادروه لم يمتع بكفن

يريد قتل شيرويه أبه أبرويز بن هرمز، مع أن له حرمة العهد الذي عاهدوه به، حين ملكوه عليهم، وحرمة الأبوة ولم يفعل لهم شيئًا يستوجب به منهم القتل. وذلك هو مراده بقوله: محرمًا، وعلى تفسير قول ابن عباس: وهو محرم بما ذكر فلا تعارض بين حديث ابن عباس، وبين حديث ميمونة وأبي رافع، ولو فرضنا أن تفسير حديث ابن عباس بما ذكر ليس بمتعين وليس بظاهر كل الظهور، وأن التعارض بين الحديثين باق، فالمصير إلى الترجيح إذًا واجب. وحديث ميمونة وأبي رافع أرجح من حديث ابن عباس، لأن ميمونة هي صاحبة القصة، ولا شك أن صاحب القصة أدرى بما جرى له في نفسه من غيره. وقد تقرر في الأصول أن خبر صاحب الواقعة المروية مقدم على خبر غيره، لأنه أعرف بالحال من غيره، والأصوليين يمثلون له بحديث ميمونة المذكورة، مع حديث ابن عباس. وإليه أشار في مراقي السعود في مبحث الترجيح، باعتبار حال الراوي بقوله عاطفًا على ما ترجح به رواية أحد الروايين على رواية الآخرة:
أو راويا باللفظ أو ذا الواقع ** وكون من رواه غير مانع